الداخلة الآن : بقلم : محمد سالم الزاوي
وانا جالس أقلب هاتفي الذي بات أنيس زماني في كل وقت، شدّ انتباهي مسلسل قديم للزعيم "عادل امام" لم يكتب لي ان أشاهده في حينه أيام خروجه خلال طبخات رمضان الدرامية قبل سنوات. المسلسل الدرامي "العراب" يحكي قصة نصاب تفرد بموهبة الاحتيال على المصريين الاثرياء وعلى النقيد من ذلك زرع الخير بين ضعاف أهل مصر ومحروميها لكونه لا يأكل الغلة "متفردا".
ولعل ما اعجبني من هذا العمل الدرامي هو تحول البطل "النصاب المحتال" الى معشوق لأعداد وفيرة من المصريين في كافة محافظات بلاد الكنانة نظرا لسخائه وإنفاقه أغلب ما يجنيه من عملياته الاحتيالية على فقراء بلده، ما جعل مهمة القبض على البطل من أصعب المهمات التي تواجه الأمن المصري، لأن من زرع عطاءه بينهم يحمونه من أيادي الدولة وبوليسها.
ولأن الشئ بالشئ يذكر والامثلة تضرب ولا تقاس، ولأن عراب مصر قد يتكرر بأوجه ومسميات تتعدد فيها الصيغ والمعنى واحدُ، فقد رأيت عرابين في جهتي لهم وجه "النصاب" فقط، لهم ألف باب يفتح منه ألف باب في اللصوصية ونهب المال العام، لكن في السخاء والانفاق على محرومي هذا الحيز المكاني فهم عرافين في مسك اليد وقطع الارزاق. عرافين في جود الآل على قلتهم، وعلى قدر أهل النهب يأتي البخل.
اننا في جرف نعيش فيه أحداث مسلسل "العراب" بأبطاله وأغواره، ونحسد فيه المصريين على ملامح عرابهم الحي في مد احسانه وتقاسم ما يجنيه مع من يعنيه ومن لا يعنيه، في محاولة لإستنتاج بلوى اختياراتنا لعصابة تكفر بمد النعم وتحسن جيدا حشر المال في جيوبها بإسم الصالح العام، عصابة لا تنزل رحمةً ولا تترك رحمة الله تنزل.
في الداخلة حيث نعيش في حركة متلاطمة من التناقضات المتصادمة التي حولت جرفنا العائم إلى كومة متناثرة من البقع والتجزئات المعروضة للبيع او المرهونة لدى ملاكها الاقربين، وكما هي ارض للمتاجرة والريع بأصنافه فهي كذلك قطعة بؤس يحوكها الظلم والانحطاط من كل جانب، انه مكان عنصري تتحكم فيه قوى قبلية متعالية تريد الاحتكار والاستغلال ونفض حقوق الناس في أرصدتها هي فقط دون ان تتقاسم فتات موائدها مع المقهورين تحت أثقال الحياة.
ان العلة عندي ليست في ان تنصّب أو تنهبْ ما دام هذا عرفا في وطننا العربي لن يزول ربما حتى يتحول الى عرف مكتوب على غرار التشريع البريطاني، لكن ما لا يتحمله عقل او يقبله وجدان ان ترى مترفين ينعمون لوحدهم بالأراضي والإكراميات والرخص بريُّها وبحريُّها، ترى قلة تشتري ذمم الناس وتسترضي جوعهم بأموالهم العامة لقاء بقاءها على خزائن المجالس، ترى ما ترى من نهب وسحل للحقوق بإسم تمثيل المواطن دون ان نجد "عرابا" واحدا يستطيع جمع مئة فرد مخلص في ولائه وليس طمعا في فتاته.
في الداخلة لا يوجد سياسي جمع كلمة الناس على قلبه "المحتال"، لذلك يظل سياسيونا بدون خلفية شعبية تقيهم "قالب" السلطة الذي يجلسون عليه بين الفينة والاخرى، لأنهم ببساطة منعوا أيديهم عن البسط منذ تنعموا، جياع في اثواب أثرياء، لا يحسنون لعيال الله في صنع او صنيعة، سخاءهم معدوم وعطائهم مهدوم، ليس بينهم عرافٌ بأحوال الناس وهمومهم وانشغالاتهم، ليس بينهم زاهد في سيارته "الفخمة" ليتجول في الاسواق وبين العوام بحثا عن اعانة هذا او إسناد تلك.
سمعت يوما من بطل مسلسلنا هذا الفنان المصري "عادل امام" قولا حكيما مفاده أن السياسي الناجح هو من "يظبط أموروا فوق او تحت.. عشان لو اللي فوق سابوك اللي تحت اشيلوك.. ولو لي تحت سابوك اللي فوق ينتشلوك.."، غير أن عرافينا بالداخلة لم يمسكوا حزام السلطة العليا فينتشلو قالب "الولاة" الذي بلغ حلقوهم، ولم يتمسكوا بعروة القاعدة السفلى ليسندوا مؤخراتهم المنكشفة امام الجميع، فتحولو لمحتالين همهم مصالحهم الخاصة بعيدا عن ضوضاء الجياع وسؤال الحقوق والبكاء على طلل الميزانيات.
انها فوضى الاجناس وضرب أخماس بأسداس وتمسك بوهم البقاء على الكراسي، والحصيلة دعاء محرومين في الخفاء وعاقبة أسوء في الرجاء، حال يغني عن السؤال لعصابة تجمع بلا كلل ولا ملل حتى باتت تترامى على املاك الغير بإسم الحق في الغنيمة، ولا حق لغيرها بالكلام زجرا في محاضر الشرطة وأقبية المحاكم، عرافين بسيناريو بائس حبذا لو يعيده لنا المصريون في مسلسل جديد لعرضه علينا نحن أبناء هذا الجرف الملعون.. فحتى في اختيارات "النصابين والمحتالين" لا حظ لنا.. ويا للآسف.