الداخلة الآن : بقلم : محمد سالم الزاوي
إني نزلْتُ بكذابينَ ضيفُهُمُ *** عن القِرَى وعن الترحالِ محدودُ
جودُ الرجالِ من الأيدي و جودُهُم *** من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
ما يقبضُ الموتُ نفسًا من نفوسِهِمُ *** إلا وفي يدِه من نتْنِها عودُ! ..
لا اعرف صراحة مدى عمق بصيرة شيخ الشعراء المتنبي وهو يعكس صورة من صور مصر في عصره وكأنه يعني سمعنا ويقصد فهمنا لحال بتنا على شاكلته منذ كتب لنا أن نتصارع في كثيب الوصولية وحب ركوب سنام الرأسمالية التي لا نفقه منها غير المظاهر والمشاهد والتفاخر بالجديد والثمين.
لا أخفيكم سرا وأنا ابن هذا الكثيب ومتجذر بالصحراء تجذر رمالها التي تسّم قساوتها بأني لم أجد من بمقدوره أن يُفهمني عقلية المتأخرين من قومي، فالبدوي على عموم ما اتفق عليه العارفون بالمجتمعات هو متحف فسيح لكل القيم التي أبتلعتها الحضارة، هو صندوق التراث وموسوعة ماضي بأصالته وكرامته. غير انه بهذا المكان المتآكل بفعل بقايا الكبريت وسموم الحروب، تحول الى بدوي مهجن على النفاق والجبن وتصنع ثقافة لا تربطه بها غير ما يربط الجمل بسم الخياط.
الداخلة التي منحتنا كل شئ منذ كنا في الحل والترحال بين مراعي المواشي وقرى الإسبان التي لا ترقى لمدن، منحتنا ثروة سمكية تلمع بواديها حتى وصف ذات يوم بأنه "وادي الذهب"، منحتنا رمالها وأحجارها وكثيبها وبحارها، منحتنا القيم والتسامح والاخلاق والاعتدال الديني منذ كان "لمرابط" معزولا عن مجلس القبيلة.
الداخلة التي كانت عصية على الاسبان فسالمتهم وسالموها وعصية على الموريتانيين رغم ما فعلوا من فظائع نسمع عنها من تراث الاجداد، لكنها اليوم لم تعد عصية على لصوص الحاضر والمستقبل، لم تعد عصية على بدو وضعوا أيدهم في ايادي "الاحباش" الذين نهبوا رمال "القنديل" وحولوها لمقابر سكنية يبيعها "سمين" العقار. لم تعد عصية على قوافل "الحبشة" وتجار الثروات ومستنزفي الارزاق الباحثين عن ثراء معلق بجدائل مابقي من أمة "لكلات".
الداخلة التي في خاطري لم تعد عصية على التقسيم بالشبر والحجر، وقد بيعت كما تباع سبايا الجاهلية في مزاد يرعاه البدوي المنتمي لسحنتها ويزكيه وافد يرى نفسه صاحب البسط والسطوة، لذلك لم يبقى شيئا عصيا على مدينتنا الجميلة غير أنها تبدئ مرحلة جديدة تتحول فيها رويدا الى مستنقع لضفادع الريع والفساد وتشويه الماضي باثر رجعي. فلا هي تركوها على حالها مدينة عذراء تلملم جروح ما بعد ماضيها الموريتاني ولاهي تركوها تبتسم لمستقبل كنا نحسبه بألوان مدن الرمل بمشرق العرب.
لم يعد بهذا المكان ما يبيح التفاءل ولا الرجس بإسم تنمية ظاهرها ملمسه ناعم كجلد الثعبان وباطنه أشواك كالقنفذ، باطنه كل ما يجول في خاطر الادمي من وحوش وعفاريت وأشباح مفترسة تقضم ما بدى لها من أراضي وثروات في جهة لايزال أهلها يكترون عند الغريب. ولا لوم على الغريب اذا ما جد الأصيل في منح عذريته وبيع كرامته والاستمناء على اغتصاب إرثه وامجاده.
لم يعد يسلم شرف هذا الجرف من الاذى، الا اذا وقف أبناءه مع أنفسهم وأصطفوا مع تاريخهم ونفضوا وهم ثورة البناء التي يدعيها أحباش الانتخابات والسلطة، فلا بناء على أرضية هتك الرمل والبحر، ولا بناء خارج أسوار القانون، ولن تنعموا بتنمية يقودها السمين ويلعنها الجياع ويمدحها اللاعقون لموائد الرحمان.
بالداخلة حكاية اخرى لتحول البدوي صاحب القيم الى متمدن بعقلية "متسخة" وبفكر يحتاج لطلاء التاريخ والكي بنار من رعوا هذه الأرض منذ كانت قبائلها تتناحر على سبي ناقة، لأن من نراهم اليوم هم عار بين البداوة والتمدن، ومتوسمون بهذه الارض لغاية في نفس المصلحة التي جعلت بعضهم يتنكر لإنتماءه فقط لأجل كعكعة نطيحة او "رخصة" متردية او "بقعة" من بقايا ما أكل الأحباش.
وخلاصة القول لا تلوموا الدولة والوطن على تدفق لعابكم الأبله أيها المارون من تاريخ هذا الجرف، لكن لوموا عقلية "الصعاليك" التي تحكمكم في زمن لا يعيد فيه التاريخ إحتضان من خرجه طوعا او كرها.