الداخلة الآن
بقلم : محمد سالم الزاوي
من المتعارف عليه أن الفرد يدخل عالم السياسة للعمل من أجل التخطيط الجيد لتحقيق الغايات العامة وولوج الشأن العام لتحقيق التنمية المجالية والبشرية الكفيلة بتقدم المجتمعات، حيث يتجنب السياسي تضارب المصالح في منطقة نفوذه لكي لا يستغل الصالح العام في خدمة مآربه الخاصة، ويتحول بذلك المواطن من غاية الى وسيلة لرجل الاعمال المتستر خلف رداء السياسة.
حالة أناركية باتت تسم جهاتنا الجنوبية، وتفتح جروح التنمية المعلقة في أعقاب من يتقاسمون مواقعهم بعد كل إنتخابات، لا لشئ سوى أن الفاعل السياسي لم يعد بهذه الاقاليم تلك الشخصية المتدرجة من خلية حزبية بأحد الاحياء الهامشية، كما لم يعد ذلك النقابي الجيفاري الذي تقطعت حباله الصوتية دفاعا عن الطبقات الكادحة. بل إن السياسي اليوم هو من يملك كل شئ وله يد في كل شئ.
ولأنني أنتمي لعروس الجنوب الداخلة، اين وهب الله هذا الحيز الرائع من بلادنا الغالية معبر النزول لإفريقيا والصعود منها، إضافة لما حباها من مناظر سياحية رائعة وسواحل بحرية غنية، إلا أنها لاتزال مشمولة بعفو نخبة سياسية تعيد عقارب التنمية لأصولها وتتعقب مشاريع صاحب الجلالة لتفرغها من أهدافها، بل إن بعضا من تلك الحيتان السياسية تتسابق على كراسي المسؤولية لإحراق المراحل وتطويع الفساد ضربا لكل المنافع التي قد تصل للمواطن المحروم بهذه الربوع.
في الداخلة الجهة والمدينة، ولكم أن تتساءلوا كيف لجهة مدينة بهكذا ميزانيات ضخمة لاتزال تعيش بوجه التسعينات، حيث تجد رؤساء المجالس والاحزاب من ذوي المصانع والمعامل الضخمة داخل المجال الترابي للجهة، حيث تتدافع تلك الحيتان لخدمة رساميلها، بل إن بعضهم رهن ميزانية المجالس لإضافة بعض البهارات المالية على ما يملكه بمناطق وربما دول اخرى باتت مرتعا لتحويلات مالية بملايين الدولارات.
وحق لساءل ان يسأل كيف للمشرع المغربي الذي لا يسمح للموظف البسيط بمجلس من المجالس أن يقدم ترشيحه داخله، بينما يسمح لجهابدة المال والاعمال أن يقدموا ترشيحهم في منطقة نفوذهم الاقتصادي، بل كيف يسمح لتلك النخب ببسط أصابعها لتتمدد على كل المجالات الاقتصادية بهذه الجهة، بينما يأمل المواطن تغييرا حقيقيا ينهي سنوات الطبقية والبطالة وغياب الأفق المنشود في حياة أجمل وواقع ينعكس بعد سنين كورونا والعقاب.
في الداخلة النموذج التي أحدثكم عنها، لاشئ تغير أو تحول عدى عن شكل بعض تماسيح السياسة وترف كماليات عيشهم على ظهر المال العام، والذي حولهم بين عشية وضحاها لأثرى أثرياء هذه البلاد، وما عسى المواطن الصاعد في مراتب الحياة إلا الاقتداء بتلك النماذج والبحث بكل السبل عن أقرب الطرق نحو "إيلدورادو" المسؤولية وجنة الميزانيات، ففي الصحراء لا تستطيع بلوغ الثروة والسطوة إلا بتوريث عائلي لسلطة الريع أو عبر تجارة الممنوعات، وحتى أولئك الذين بلغوا المناصب صدفة تم التضييق عليهم من نفس الحيتان التي ترعى في مراعي المجالس بهذه الجهة.
إننا اليوم أمام تحديات كبرى تمر بها بلادنا، وأمام نموذج تنموي يحتاج نخبة قادرة على تنفيذه بعيدا عن أطماع المصالح وخوصصة الكراسي، نحتاج نخبة حقيقية تتطلع لتسليم المشعل للشباب القادر على تحقيق رغبات المواطنين وتشريف جلالة الملك عبر إنجاح أوراشه الكبرى، وليس تدوير الفساد بذات الآليات بل إعادة إحياء أسوء نماذجه خلال الانتخابات الاخيرة، والتي زادت من تنفير الشباب وأثبتت أن الديمقراطية مجرد مزاد معلن لمن يدفعون بالكاش.
إن هذا الإصرار على النخب الريعية من طرف الدولة هو تورط مباشر وفاضح في إستغلال النفوذ السياسي من أجل مص دماء المواطنين وسلب حقهم في العيش الكريم، وإصرار النخب بشكل دوري على تبرير مواقفهم الذليلة والخانعة في الدفاع عن من يمثلون والدفاع عن مصالحهم الإقتصادية والسلطوية هو أكبر عقبة في طريق التغيير نحو الأفضل وهو الوحل الذي لن تخرج منه عجلة التنمية أبدا ، فمن يقول لي إن الكفاءة هي التي تتحكم في التدبير وماقيل عن الحكامة الرشيدة قد تم تفعيله فهو واهم وحالم والواقع يكذب السماعي والترويج الإعلامي الثلاثي الأبعاد لم يعد ينطلي على أحد ، إذا كانت هناك نقلة نوعية توعوية تنويرية فهي رهن أيدي النخب التي نعرفها منذ وجدنا على هذه الأرض، وهي النخب التي تستغل كل شيء حتى القبيلة وحتى أقذر أنواع الإبتزاز من أجل كرسي الراعي وحماره ودبشه ليتابع رعاية قطيعه ، والحال أن نفس الفيلم يتكرر علينا والعالم يتغير من حولنا ونحن نغير شكل الكراسي والثياب مع الحفاط على نمط العقل الحاكم الذي يؤمن بما يملى عليه من أصغر موظف بوزارة الداخلية ليسير قطيعه نحو مراعيه ومزارعه لرفع الإنتاجية الإقتصادية الخاصة به، وللصياح في براري الدولة وتثمين مواقفها من النزاع.
إننا في صبيحة كل يوم نسمع ونرى كيف توزع المشاريع الوهمية والبقع الأرضية والإستثمارات الضخمة لنفس الجيوب التي تلهف أكثر مما تصرف وتستغل لنفسها أكثر مما تتصدق على رعاياها ، فالمشهد بات أشبه بكارتيلات إقطاعية داخل الدولة، فهناك دائما من يراهن على النخب داخل الصحراء ويحاول الدفاع عنها بنوازع مختلفة حزبية ، قبلية، سياسية... لكن الشريحة الكبرى حسب تتبعي لعينات مختلفة من المجتمع لا تراهن على التغيير في ظل هذه السياسات وهذه النخب وإنما تعول على متغيرات دولية قد تحدث الفارق فالدولة غير قادرة على تأطير الجماهير لكون فكرها لا يستجيب لمتطلبات المرحلة، ولا يحقق آمال الشباب وطموحاته وتطلعاته في الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية. وتماطلها ومبالغتها في الحديث عن منجزات إستفادت منها نخب هي من صنعتها على مقاس سياساتها العمومية بالمنطقة ، وقد تأكد أنها لا تستطيع أن تنهج طريقا لمحاربة الفساد والإستبداد، فمهما أدعت النخبة السياسية السير على درب الإصلاح والتغيير فلا تصدقوها فقد صدقنا بما فيه الكفاية. لأنه ليس بيدها الحل والعقد ولا يتعدى دورها تصريف المراحل مقابل الثراء، ولعل الصمت المطبق الذي يجافي أصواتها عند تعيين الحكومة الاخنوشية الخالية من بروفيلات أبناء الصحراء، يؤكد أن تلك النخبة مجرد أبواق متمصلحة يحركها دافع المصلحة عن بعد من شيوخ السياسة بالرباط.
فمتى يستقيم الظل والعود أعوج ؟.