الداخلة الآن: عن الأسبوع الصحفي
في أعقاب انقلاب الصخيرات (10 يوليوز 1971) وبعد إعدام المسؤولين يومين من بعد(…) يحكي المحجوبي أحرضان، قطب الأمازيغ(…) أنه ذهب للفطور عند رئيس الحكومة أحمد العراقي، قطب الفاسيين(…) في بيته بشاطئ سهب الذهب، ليجد عنده المستشار الملكي إدريس السلاوي، والجنرال أوفقير، ومدير المخابرات العسكرية، موحى اليوسي، وهم يتبادلون تفاصيل الانقلاب، وما جرى من دماء في القصر الملكي بالصخيرات، وساعة الإعدام، بساحة الإعدام(…) على شاطئ البحر.. ذكريات دموية، رهيبة، مريعة، تمثل أحلك الفترات في تاريخ المغرب، المغرب الذي كان عمليا بين أيدي هذه المجموعة من المسؤولين، الذين فقدوا في ذلك الصباح الدامي من شهر يوليوز، أعز أصدقائهم، وزبدة المحظيين بالاستدعاء للحفل الملكي، بينما لازالت أحشاء المجتمعين في بيت رئيس الحكومة تتنغص من الخوف، وليس فيهم واحد مطمئن، إلى أن الكارثة انتهت.. كيف لا.. وهم جلوس على بعد مئات الأمتار من المسرح الدموي في القصر الملكي، ليبادر واحد منهم، كما يحكي أحرضان، لمحاولة تبريد الأجواء، أن يحكي لهم نكتة، ويروي أحرضان أن حاكي النكتة كان هو الكولونيل اليوسي، مدير المخابرات العسكرية، حيث كان المفروض في مدير المخابرات، أن يكون النبض الحساس بما يخالج الرأي العام، وهو الذي قال للحاضرين، سأحكي لكم حكاية السي بن كيران(…) الذي أراد أن يشتري دلاحة، فأخرج سكينه وطعن الدلاحة، لينتفض بائع الدلاح، ويقول له: لماذا طبعها بالموس وأنت تعرف أن كل الدلاح خامج(…) أنا خامج.. وأنت خامج، وكلنا خامجين بحال الدلاح، ليضيف قائلا: الكوميسير يأخذ الدلاحة، ويقول لي: سأدفع الثمن من بعد، والمقدم يأخذ الدلاحة بلا فلوس، والجندرمي يقول أنه سيأخذ دلاحة لرئيسه، والخليفة يقول أنه سيأخذ الدلاحة للقايد، والشيخ يقول أنه سيأخذ الدلاحة للخليفة، وهكذا.
وربما كان الكولونيل صادقا في التلميح إلى الواقع المغربي وتشبيهه بالدلاح الخامج، وربما كان وكأنه يعطي الحق لأولئك الذين ثاروا يوم عاشر يوليوز.
المهم أن هذا الفطور في بيت رئيس الحكومة أحمد العراقي، حصل كما وثقه أحرضان صباح يوم 3 غشت 1971، ليسمع الجميع في نفس اليوم مساء، بالملك الحسن الثاني يعلن تشكيل حكومة جديدة، بإبعاد حكومة العراقي، الذي كاد الكولونيل الشلواطي قد حاول الخروج من صف الإعدام ليصفعه، قبل أن تطلق رصاصات الإعدام عليه، وربما كانت حكومة كريم العمراني التي أعلن عنها يوم 4 غشت 1971، هي أقصر الحكومات عمرا في تاريخ المغرب، لأنها سقطت ثمانية شهور من بعد، فقد كان تشكيل الحكومات في ذلك الزمان، وحلها بسرعة، مؤشرا على الحالة الصحية المضعضعة للوضعية السياسية.
وتكمن أهمية التذكير بهذه الظروف الحكومية الصعبة، في المقارنة المفروضة، بين الظروف التي كان يعيشها المغرب ما بين 1971 و1972، السنتين المطبوعتين كل واحدة منها بمحاولة انقلاب، الأول في 10 يوليوز 1971، والثاني في 16 غشت 1972، تحت أنظار المنظمة الحزبية التي تشكلت في تلك الظروف، الكتلة الوطنية، بزعامة علال الفاسي وعبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، وعلي يعطة، والمحجوب بن الصديق، والتي رغم تقدير هؤلاء الأقطاب للوضعية الخطيرة التي كان يعيشها المغرب، فإنها أعلنت في مخططها السياسي الذي لم تكن تتفاوض لمناقشته(…) انطلاقا من المطالبة بدستور ديمقراطي، وانتخابات حرة وحكومة مختارة من الشعب، لتبقى المقارنة بين تلك الأيام، وحاضرنا المضحك المبكي من هذه الأيام، لتكشف المقارنة عن سخافة الأوضاع الحالية، وفراغها، خصوصا وأن الجيش في تلك الفترة كان بين أيدي الجنرال أوفقير، واحد من أقوى الجنرالات الذين عرفهم تاريخ المغرب، فيم كان القصر الملكي، مسلحا بتواجد الأحزاب الأخرى، فيما يسمى بالأغلبية التي تختصر برامجها في الالتزام بمبدإ نعاما سيدي، إضافة إلى أنه في إطار الدستور القديم، كان الملك الحسن الثاني يتتبع الأحداث دقيقة بدقيقة، محتاطا لكل تشكيل، وكل حزب، وكل تيار عسكري، كلف مرشحه لرئاسة الحكومة كريم العمراني بالاتصال بالزعيم علال الفاسي باسم الكتلة، وقد رفض الزعيم الاستقلالي باسم شركائه كل مشاركة في الحكومة، وأبلغ الرئيس المعين كريم العمراني بهذا الرفض النهائي، ما لم تلب مطالب الكتلة الوطنية، وكل من هذه المكونات متحصن في موقفه، لتتجمد الدماء في عروق الفاعلين السياسيين، خاصة بعد إقدام الملك الحسن الثاني على اتخاذ قرار مشحون بالمؤشرات، فقد اختار العربي حصار، الذي كان مديرا للأمن، ثم مديرا للشؤون السياسية في وزارة الداخلية، وعينه رئيسا للكتابة الخاصة الملكية.
العسكر أيضا، وبدورهم تحركوا كما سنرى، حتى بعد تحميلهم مسؤولية الانقلاب العسكري بالصخيرات، وأحس الجالس على العرش بالخطر، وهو الذي لازالت الدماء المهرقة في قصره يوم عاشر يوليوز لم تجف بعد، حسا ومعنى، لينتهز مناسبة 20 غشت 1972، عيد ثورة الملك والشعب، بعد حدوث المحاولة الثانية لانقلاب 16 غشت 1972 ولم تحتمل أعصاب الملك الصدمة، فتسلح ليطلق على أمواج الإذاعة والتلفزيون تلميحه إلى ما يراود فكره، ويقول: ((علي أن أستخرج العبر، وأعمل إن اقتضى الحال على تطبيق الملكية، المطابقة للمذهب المالكي، الذي لا يتردد في القضاء على الثلث الفاسد(…) إذا كان القضاء عليه يضمن نجاة الثلثين السليمين)) (خطاب رسمي. 20 غشت 1972).
ترى ما هي الظروف التي جعلت ملك المغرب يصارح شعبه والتي جعلته مضطرا، مهددا بإفناء ثلث المغاربة، حماية للثلثين الباقيين، وكان قد أحس بخطإ تشكيل حكومة 4 غشت برئاسة القطب المالي الكبير، كريم العمراني، حتى قبل حصول الهجوم على طائرته من طرف وزيره في الدفاع أوفقير، وقد كانت حكومة لا تتناسب مع الظروف الصعبة التي يجتازها المغرب، متأثرا ولا شك بمستشاره عبد الهادي بوطالب الذي عندما سأله الحسن الثاني عن رأيه فيها، أجابه بوطالب بدسارة(…) واضحة: ((إني لم أر يوما، أن يجتمع في القصر الملكي، خليط من الوزراء والصعاليك والفاسقين(…) ليقاطعه الملك: من تعني، فيجيبه بوطالب: اعفني فلا أريد ذكر الأسماء)) (مذكرات أحرضان).
فقد حصل التحرك العسكري، حتى بعد موت وإعدام العشرات من كبار الضباط، ومباشرة بعد تشكيل الحكومة الأولى لكريم العمراني، عشرة أيام بعد انقلاب الصخيرات، تلميحا من الجيش إلى عدم قناعته بتلك الحكومة، التي وصفها المستشار بوطالب بحكومة الصعاليك، وحيث يحكي أحرضان: ((كانت الساعة الحادية عشر ليلا عندما صحاني حارس بيتي ليقول لي: إنه الجنرال الدليمي رفقة الكولونيل الشافعي في الباب، ويدخل الدليمي ليكلمني عن الأوضاع، وأنه يتعين عليك يا أحرضان أن تذهب عند سيدنا، وتخبره بأنه جاء الوقت لتعيين الجنرال أوفقير رئيسا للحكومة بعضوية الجنرال إدريس بن عمر، وأن الجيش هو وحده القادر على إعادة الاستقرار للبلاد. وكان الدليمي يعرف أني على موعد مع الملك لأفطر معه في الصباح الموالي، وفعلا أبلغت الملك أن حكومة عسكرية هي الكفيلة وحدها بعودة الاستقرار، وكنت قد لاحظت أن الملك الحسن، قد أحضر معي في الإفطار الجنرال أوفقير، الذي قاطع اقتراحي بقوله: إن الجيش ليس من حقه أن يتدخل في السياسة، الجيش هو ضامن السياسة الملكية، والملك يستمع، قلت لأوفقير: لسنا في فرنسا، ولا أمريكا، فالجيش عندنا هو جزء من الشعب، ويقاطعني الملك الحسن: ماذا تواخذ على كريم العمراني، لأجيبه: ليس لي ما أواخذ على كريم العمراني، ولكن أحد المقاومين البيضاويين قال لي بالأمس: لا يمكن الركوب على حصان ميت، ولكني، يقول الملك، محتار، فعلال الفاسي يقول لي أنا بين السخون والبارد، وعبد الرحيم بوعبيد قال لي: أنا أدير ظهري لعشر سنوات من مبادئ الحرية والاقتصاد الاجتماعي، وعندما اقترحوا علي أن تكون الحكومة كلها لهم، ويكون أوفقير في الدفاع الوطني وإدريس بن عمر في البريد، والباقي لهم، قلت لهم: تريديون أن تضعوا جنرالين من عندي رهائن عندكم)) (مذكرات أحرضان).
ليفهم من هذا النقاش، أن فكرة تشكيل حكومة عسكرية، ربما كانت تراود الملك.. ليبقى التذكير بهذه الظروف، درسا لزماننا هذا، الذي لم يبق فيه التاجر بن كيران، بورجوازيا يشتري الدلاح المتعفن(…) كما حكى كولونيل المخابرات العسكرية اليوسي، ولكن ها هو بن كيران يصبح رئيسا لحزب حاضر وحده، في زمان انقرضت فيه الكتلة الوطنية وأحزابها، واندثرت فيه في الانتخابات الأخيرة كل مكونات الأغلبية، وأصبح فيه الحكم في المغرب كسيارة عصرية تسير بسرعة في البذخ الأوطوماتيكي، زمان لم يبق فيه لا أوفقير ولا دليمي، ولا حتى أحرضان.. وحتى الكاتب الخاص الملكي لم يبق مديرا سابقا للأمن الوطني، ولكنها ظروف زهوانية، لم يبق فيها ذلك النوع القديم من الرجال الصعاب(…) تماما كما كان المغرب في السنين الأولى لحكم الحسن الثاني، وإنما الخوف من ذلك التحول الذي طرأ على تلك الأيام الهنيئة الأولى التي عرفها المغاربة في السنوات الأولى لحكم الحسن الثاني، الذي عندما صحا وسط حفلاته، وجد نفسه قد يكون مضطرا لتشكيل حكومة عسكرية.