الداخلة الآن: متابعة
في الوقت الذي لايزال صدى الشعارات السياسية يجتاح مدرجات كرة القدم، عبر سلسلة من الأغاني كانت أشهرها “في بلاي ظلموني” لفريق الرجاء البيضاوي، التي أصبحت لازمة لا تردد في المغرب فقط، بل في مختلف الدول العربية التي تعرف ميادينها وساحاتها احتجاجات مختلفة، خرج ثلاثة شبان بأغنية جديدة ذات حمولة سياسية بامتياز من صنف “الراب” بعنوان “عاش الشعب”.
الأغنية التي غناها ثلاث شبان (لزعر، سيمو الكناوي، ولد الكرية) تخطت حاجز 8 مليون مشاهدة على اليوتيوب في وقت سريع، وكانت هذه المرة أكثر راديكالية من “في بلادي ظلموني”، حيث توجهت برسائل سياسية قاسية تنتقد الأوضاع الإجتماعية في المغرب، وتخاطب مباشرة أعلى سلطة في البلاد.
الإحباط واليأس ينتج خطابات راديكالية
مولود أمغار ، الأستاذ الباحث في علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض بمراكش، قال إن التعبير عن مجموع المشكلات التي يتخبط فيها المجتمع، بشكل علني وبصوت مجهور أصبح أمرا عاديا واعتياديا في المغرب، وهو أحد المؤشرات الدالة على “تنامي ثقافة اللاخوف في الخطابات واللغة اليومية المتداولة بين أفراد المجتمع”.
وأضاف أمغار في تصريح لموقع “لكم” أن هذه الأشكال الاحتجاجية الراديكالية ومجموع الخطابات التي ترتبط بها تظهر كردود أفعال عن اللامبالاة التي تواجه به الدولة مطالب بعض الفئات الاجتماعية.
وحسب أمغار، فإن هذه اللامبالاة، بالإضافة إلى اليأس والاحباط، تدفع ببعض المجموعات والأفراد إلى تبني أشكال احتجاجية تصعيدية وإلى إنتاج خطابات راديكالية.
وأوضح أمغار أن هذه الأشكال الاحتجاجية الراديكالية ترتبط بأشكال “الحكرة”، انطلاقا من الافتراض أنه “كلما زادت حدة إحساس المحتجين بالتهميش والإقصاء، وارتفعت مستويات التعنيف المادي والنفسي في حقهم، وانقطعت جسور التواصل بينهم وبين مؤسسات الدولة، كلما ابتدع المحتجون أشكالا نضالية راديكالية وغير متوقعة، تصل في أحيان كثيرة إلى درجة تبني أشكال احتجاجية مُميتة، مثل الأشكال الاحتجاجية التي خاضها عبد الوهاب زيدون، ومحسن فكري، وفدوى العروي وآخرون” (الأشخاص الثلاثة أقدموا، خلال السنوات الماضية، على حرق ذواتهم حتى الموت، للإحتجاج على أوضاعهم الإجتماعية).
وأكد أمغار أن تغير فهم الناس للسلطة وأشكال ممارستها، يصعب اليوم على أي كان عملية توقع ردود فعلهم اتجاه أشكال التسلط والتعسفات التي يمكن أن تطالهم، فقد أصبح الفرد يبتدع أشكالا احتجاجية راديكالية غير متوقعة ضد سلوكات وممارسات كانت تبدو إلى حد قريب عادية ومقبولة لأنها جزء لا يتجزأ من ممارسة السلطة في حد ذاتها.
الانترنت أداة للهيمنة وللمقاومة أيضا
وأبرز أمغار أن الشباب المغربي يستغل اليوم كغيره من شباب العالم الإمكانيات التي يتيحها لهم عصرهم من أجل إحداث التغيير، أو على الأقل تحقيق بعض المكاسب الاجتماعية والسياسية، مضيفا بأن “الانترنيت والتكنولوجيا اليوم شئنا أم أبينا هي أجهزة للهيمنة وفي الوقت نفسه أدوات للمقاومة، لأنها تساعد الأفراد وخصوصا الشباب على التشبيك والانتظام بشكل سريع وسلس من أجل المقاومة والاحتجاج”.
وزاد أمغار “كما أن هذه التقنيات تساعد الشباب على إنشاء فضاءات عمومية منفلتة نسبيا من رقابة الدولة، التي أحكمت سيطرتها على الفضاءات العامة الفيزيقية”.
وأكد نفس الباحث أنه لا أحد يستطيع اليوم أن ينكر درجة تأثير الأشكال الاحتجاجية التي تندلع على شبكات التواصل الاجتماعي على الواقع السياسي والاجتماعي، بما أنه تحول إلى “الفضاء الذي تنتج فيه السلطة المضادة بامتياز، ويمكن رصد هذا التأثير في الكيفية التي أصبحت تتعاطى بها مؤسسات الدولة مع النقاشات وموجات السخط والغضب التي تندلع وتتطور في شبكات التواصل الاجتماعي”.
عدم الثقة والشك في مؤسسات الوساطة
وأشار مولود أمغار إلى أن المؤسسات التقليدية مثل الأحزاب السياسية، وهيئات المجتمع المدني والنقابات، المنوط بها لعب دور الوساطة بين المجتمع والدولة تعرف تراجعا بمستويات مختلفة في كل أنحاء العالم في “التعبير بالنيابة” عن المتطلبات والحاجيات السياسية الجديدة لفئة الشباب، التي أصبحت تشكل نسبة مهمة من ساكنة العالم، ولذلك أصبحت العلاقة التي تطبع الشباب بالمؤسسات السياسية والنيابية هي “عدم الثقة والشك المتواصل في قدرتها على عكس طموحاتهم والتعبير عن حاجياتهم، وبالتالي من الطبيعي جدا أن تبحث هذه الفئة لنفسها عن فضاءات جديدة لممارسة السياسة وفقا للقيم التي تؤمن بها وبالطريقة التي تراها مناسبة”.
وأبرز أمغار أن هذه الأشكال الاحتجاجية تصدر الآن عن الفئات المهمشة التي كانت تعتبر تاريخيا فئة قاصرة وغير مؤهلة لإحداث التغيير، لأن التغيير تاريخيا ارتبط بالرهان إما على الطبقة العاملة بحكم موقعها في عملية الإنتاج أو على الطبقة المتوسطة بحكم مستواها الاجتماعي والتعليمي ،الذي كان يعتقد أنه يمكنها من الدفاع عن الطبقات الشعبية وقيادتها لإحداث تغيير، أو على فئة المثقفين أو الشباب.
“الوعي بالقهر”
وأوضح نفس الباحث أن الأشكال الاحتجاجية التي تخوضوها الفئات المهمشة بشكل يومي ضد كل أشكال “الحكرة” والظلم والقهر التي تطالهم، تكشف عما أسماه عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات “بالوعي بالقهر”، بمعنى أن “الفئات المهمشة والمقهورة أصبحت بشكل أو بآخر تعي أن وضعيتها الاجتماعية والاقتصادية وضعية غير طبيعية وغير سوية، لأنها نتاج سياسات عمومية لا تعكس المساواة والعدالة، وتنامي هذا الوعي بشكل تدريجي يجعل من هذه الفئة الاجتماعية، الفئة الأكثر احتجاجا لأنها الأكثر تضررا”.
وأكد مولود أمغار أنه لا يمكن الإجابة بالنفي أو بالإيجاب فيما يتعلق بدرجة مشاركة الطبقة المتوسطة في التعبير عن سخطها وغضبها ومشاركتها للفعل الاحتجاجي مع الطبقات المهمشة، لكن “جميع المؤشرات تؤكد أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للطبقة المتوسطة في تراجع مستمر، وهذا ما سيدفعها إلى الاحتجاج أيضا وإلى لعب أدوار محورية في عملية التغيير، لأنها تعرف حركية نازلة، ولأنها تعي أكثر من غيرها بأن توالي السياسات التقشفية التي تنهجها الحكومات لمواجهة بعض الاكراهات الاقتصادية، يفقدها يوما بعد يوم امتيازاتها وأيضا مكانتها الاعتبارية داخل المجتمع”.
وعن منسوب الجرأة المرتفع في أغنية “عاش الشعب”، قال أمغار إن “مساحات الخوف والصمت اللذين كانا مؤشران دالان على قوة الدولة، قد تراجعا بعد أحداث (الربيع الديمقراطي)، وهذا ما يمكن لمسه في طبيعة الموضوعات الي يخضعها الشباب اليوم للنقاش والانتقاد والاحتجاج بشكل علني وبلغة جريئة، خصوصا تلك التي كانت تندرج إلى حد قريب في خانة الطابوهات”.
وشدد أمغار أن على أكثر ما يعنيه التعبير والاحتجاج اليوم باستخدام كلمات ومفردات راديكالية، هو تغير طبيعة علاقة فئات اجتماعية عديدة مع الدولة ومؤسساتها.